Image Image Image Image Image Image Image Image Image Image

مجلة الرؤية- |

انتقل إلى الأعلى

أعلى

لا توجد تعليقات

الوعي النسائي مطلب شرعي وضرورة عمرانية


مونية الطراز:

مقدمة:

“الوعي النسائي” حاجة من حاجات العصر الملحة وضرورة أكيدة، تستمد أهميتها من الصفة التي تُبْطنها وتدل بها على وسط معافى وبيئة سليمة، وهو مطمح الأمم التي ترى فيه المدخل إلى عوالم الرقي والازدهار، وتتطلع من خلال إشاعته إلى بناء مجتمعات لا تلغي عناصر القوة في أفرادها. و”الوعي النسائي” تعبير عن صحوة إنسانية ترفض الإقصاء كما ترفض الانكماش والتقوقع على الذات، فهو مصطلح حديث الظهور، تشكل مفهومه في سياق دينامية متدفقة وحراك اجتماعي عام تأجج أُواره منذ قرن ونيف في سائر أوطان المعمور، بعدما اصطلى وهجه من “أنوار” النهضة الغربية ومن خطابها التصحيحي الذي اعتبر الوضع البئيس للمرأة عائقا يحول دون الإصلاح.

الوعي النسائي بين الواقع والمأمول:

هذا هو “الوعي النسائي” الذي تلقفه الوطن العربي والعالم الإسلامي وأسقطه على واقع المرأة المسلمة، فسجّل بذلك امتدادا طبيعيا لهذا الحراك العام الذي حمل صفة الخطاب التحريري في العالم بأسره، إلا أنه وبحكم اختلاف السياق التاريخي للعالم الإسلامي بقي الخطاب التحرري هذا على حالته خاما، ولم يُنزّل على الواقع التنزيل الصحيح، وهكذا فحيث تناسلت الاتجاهات الفكرية الوافدة من الغرب واختلفت منطلقاتها تبدّت مبادرات متعددة للإصلاح في العالم الإسلامي وتنوّعت بتنوع الاتجاهات الفكرية الواردة على المسلمين وبدأ خطاب الإصلاح يتأثر بمضمون الفكر التحريري الغربي وكذا بمنهجه الذي يقوم على المنازعة والعداء في عرض البدائل والحلول، ورويدا رويدا انتقل هذا المصطلح – في خطاب الإصلاح- من الإفصاح عن حالة صحوة تلقائية إلى التعبير عن توجهات فكرية محدّدة تعكس ألوان المجتمع الثقافي وتناسب أنساقه المعرفية، ومن ثم أصبح الخطاب يبرّر اختيارات إيديولوجية مختلفة لا تعكس الهموم الحقيقية للمرأة المسلمة بقدر ما تُؤسس لأنماط ثقافية دخيلة وبعيدة عن طبيعة المجتمع الإسلامي وخصوصيته وهموم المسلمين وقضاياهم.

لكل هذه الحيثيات يمكن أن نقول إن دعاوى إشاعة الوعي النسائي لم تنجح في الوطن العربي فيما مضى من الزمن ولن يُكتب لها النجاح أيضا ما لم تُحقّق وعيا بذاتها، فالظاهر أن هذه الدعاوى في العالم الإسلامي لم تكتشف ذاتها قبل أن تعلن عن نفسها وكان الواجب أن تدرك طبيعتها وتتفهم خصائصها وخصوصياتها، وتحقق في نفسها وعيا دقيقا بعمق الدعوى وجوهرها، قبل أن تخرج للعلن، ووعيا مثيلا بأصولها ومقاصدها، ووعيا آخر بحيثيات تنزيل الدعوى على واقع الناس، فالموضوع –كما لا يخفى- يؤتى من جوانبه الشكلية البعيدة عن العلمية والتأصيل والواقعية، ويُعالَج في الغالب من خلال مقاربات جزئية تُسهم في تكريس الدونية والإقصاء لدى المرأة، وهذا ما يحتاج إلى نظر جديد وتصحيح مفيد.

إن الوعي النسائي اليوم حين يطلق يُحصر مضمونه في قضايا “نوعية” متعلقة بالجنس والنوع من قبيل الدلالة على التحسيس بالصحة الإنجابية ومن زاوية التربية النسوية أو محو الأمية، وغير ذلك من الدلالات التي تَنِمّ عن أزمة هذه المقاربات السطحية التي اختزلت وظائف المرأة وهمومها اختزالا نأى بها عن الفاعلية المطلوبة، وتَكْشف عن مغالطات صوّرت مشكلات المرأة عبارة عن حق مغتصب لا بد أن يُسترجع حتى صارت دلالة “الوعي النسائي” في غالب مضامين الخطاب التحرري توحي بوجود صراع يلزم أن تقوى المرأة على إدارة دفته، فأنساها بريق الحق المُتوهّم قضيتها الحقيقية التي يكفلها لها الإسلام والتي ترفع سقف مطالبها إلى الأعلى.

لقد نسيت المرأة أن ثقافة الوعي بالحقوق ووسائل انتزاعها لم تكن في مضمون الخطاب القرآني سوى الجزء من الكل والفرع الصغير من الوعي الكبير الذي يشمل الوعي بحقيقة الوجود وفلسفته، ولم تكن المرأة وهي تردد هذه المطالب الشكلية في غمرة الحماس لتدرك أن ما تنادي به لا يعدو أن يكون مطالب بسيطة وحاجات طبيعية قد تقودها إلى التحرير، ولكنه تحرير قاصر عن تثبيت كرامتها الحقيقية وأبعد ما يكون عن وضع النساء في صلب موقعهن المسئول الذي يسمح لهن بممارسة وظيفتهن الكبرى التي تنصهر فيها كل الوظائف الأخرى، ويجعلهن صانعات للتاريخ وشاهدات على العالمين.

إن التصحيح اليوم يجب أن يتوجّه إلى تقويم هذا الخطاب ليؤدي وظيفته الحقيقية في بعث الوعي النسائي، فلقد صار من أوجب واجبات المرحلة أن يلتزم التفكير في قضية المرأة المسلمة بما يقتضيه الخطاب الوجودي في القرآن الكريم المكتنز بأسباب السمو، وأصبح من الضروري أن يعكس الخطاب التحرري هوية المرأة المسلمة ويعبّر عن انتمائها الحقيقي إلى الأصل المتين والقرآن العظيم ذاك الذي يعتبر المرأة إنسانا يحمل صفة خليفة الله في الأرض، وفاعلا عمرانيا يمتلك أدوات الإدراك العقلية والحسية القادرة على التدبير السليم للقضايا الحياتية الكفيلة بقراءة الفضاء الفسيح فضلا على المحيط المحدود.

الوعي بوظيفة الوجود:

لا يمكن أن تفهم المرأة المسلمة حقيقة الوعي المطلوب منها إلا بفهم وضعها في الوجود واستيعاب وظيفتها فيه، فهي -إذا تأملت- أدركت أنها مطالبة بما تستدعيه الخلافة في الأرض، ذلك أنها الإنسان نفسه الذي خلقه الله تعالى من تراب وسواه وركّبه في أحسن شكل وصورة، فوظيفتها من وظيفة آدم مُكنت مثلما مكّن من الأدوات الكفيلة بإدارة أمر الخلافة، وأقصد العقل المدبّر والحواس الفاعلة، فهي تدخل في الأمر بالاستخلاف الذي جاء به القرآن الكريم بمقتضى خطاب العموم الذي يجمع الجنسين، وحاصل ذلك أن كل تفاصيل الخطاب الموجّه لآدم منذ أن خلقه الله من طين يعني المرأة بالضرورة، وكل ما وهبه الله من مؤهلات إنسانية تعنيها أيضا، فما هي هذه المؤهلات وكيف حصل التكليف بمقتضاها وكيف تخلّفت المرأة عن الموثق؟

أ-المرأة مقصودة بالاستخلاف:

لا شك أن التكليف بأمر الخلافة مهمة جسيمة تقتضي أن يكون المكلف عاقلا مستوعِبا لما يجري، عليما بماهية الأشياء من حوله وفلسفتها، مدركا لكُنه الأمور، مميّزا بين الخير والشر والصلاح والفساد، فهذه الكفاءات هي سر الاستعداد الإنساني لأداء وظيفته الوجودية، وهي كفاءات بيّنت الآيات مراحل تحققها في الإنسان منذ خلقه الله من طين لا روح فيه إلى أن كَوَّنه مضغة غير مخلقة فمخلقة فاقدة للأهلية والقدرة ثم كائنا عاقلا ومعلَّما يستحق التكريم حتى صار مكلفا مؤهلا يستحق أن يكون خليفة لله.

القرآن الكريم وضّح مراتب الخلق والتكوين الإنساني في مجموعة من المواضع والسياقات وبيّن أن الإنسان الذي أنشأه البارئ عز وجل هو خلق آخر لا علاقة له بأصله الطيني هو خلق جديد أهل لمهمة الإعمار بما حبي من مقومات خصّ بها دون باقي الخليقة، هذه الحقيقة غابت عن الملائكة التي استغربت تفويض أمر الخلافة لمخلوق ضعيف ينزع بطبعه إلى الفساد إذا ترك لأمره، ولم تقف على حقيقة مهمة مرتبطة بخصوصية الإدراك الإنساني الناتج عن العلم والمعرفة، باعتبارها صفة بشرية مستجدة لم تكن الملائكة لتدرك كنهها وقدرتها على تقويم الفعل وتصحيح السلوك، ولم تُحِط بها من قبلُ خبرا، ولذلك قالت: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء﴾[1]، وكأنها تستطلع معرفة الله تعالى وعلمه بما بذره في نفس الإنسان من منازع الخير ووسائله، وتنتظر قوله تعالى:﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾[2].

القرآن الكريم حين عرض لهذه التفاصيل كان غرضه الكشف عن أهمية هذا التمييز الذي لا يحدده الاستغراق في التسبيح ولا طهارة النفس من الخطايا كما هو شأن الملائكة، ولا تحدده طبيعة المادة التي خلق منها ومدى رفعتها وقيمتها كما هو الأمر بالنسبة لإبليس الذي خلق من نار حارقة، ميزة الإنسان كشف عنها السياق في قوله تعالى:﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[3]، في هذه الآية رفع النقاب عن أهم ميزة في الإنسان وهي ميزة المعرفة وميزة التمييز، وكشف فيها عن قيمة مهمة في الإنسان وهي قيمة الإرادة والقدرة على الفعل، فهذه المعرفة تتعلق بغاية الاستخلاف التي أعلن عنها من قبل علاقة العلة بالسبب.

وهنا لا بد أن نقف على أمر مهم ما دمنا نستطلع إشارات النصوص ودلالات الألفاظ، وما دمنا مؤمورين بهذه المهمة، آدم هنا حين كُرّم وعُرّف مسئولياته، وعلمت إمكانياته ومؤهلاته العقلية والحسية هل كان يُقصد بشخصه أم كان يُمثّل ذكور نسله دون الإناث ما دام أن الخطاب توجه إليه في هذه الآية دون زوجه وفي غيابها.

 ذِكرُ آدم في الآية قد يتوهّم فيه لمن لم يتبصر ما يدل على استثناء المرأة من حقيقة هذا الإدراك، وهذا التوهم قد يصدر عن العوام مثلما يفهم من أقوال بعض العلماء، ولنا في قول المفسرين والفقهاء وعلماء الكلام وأئمة العقيدة رصيد هائل من الأقوال، أغرقوا بتفاصيلها في بيان تكريم آدم ومسئولياته وقضايا الإعمار التي يلزمه حسن تدبيرها، وتحدثوا عن مؤهلاته وإمكانياته العقلية والحسية إلخ، إلا أن ميل بعضهم إلى استثناء زوجه كان واضحا في أحاديثهم إما لعلة أن الآيات تخاطب آدم مفردا، وهذا مردود بدليل سياقات الآيات التي فصّلت في وقائع التكريم، وإما بناء على قناعة شَكّلَها واقع لم يتخلص تماما من الإرث الجاهلي الذي طالما أقصى المرأة من أعباء الحياة، وإما لاعتبارات أخرى.

ب‌- القرآن ملهم للوعي النسائي:

 لذلك كان لزاما إعادة قراءة نصوص الاستخلاف وفق التصور القرآني السليم للإنسان بشكل عام واستخراج رؤيته للمرأة بشكل خاص، فلا سبيل إلى تجديد  وعي المرأة بوظائفها، ولا طريق إلى ترتيب وضعها في السُّلم الاجتماعي بدون تجديد تفسير النصوص، فالتصحيح يجب أن ينطلق اليوم من إفادات الآيات المتعلقة بالاستخلاف الإنساني بما تحمله من دلالات على الرجل والمرأة معا، ذلك أن حسن فهم النصوص كفيل أن يعيد ترتيب الوضع، ومن شأنه أن ينزّل المرأة المنزلة الطبيعية، ويضعها أمام مسئولياتها وأمام امتحان حسن التدبير في ظل قراءة سليمة للنص والواقع.

إن الكفاءة التي تجعل الإنسان قادرا على تدبير الخلافة في الأرض لا تستثني المرأة من التكليف، فالمرأة خضعت بدورها لاختبار قدراتها حين وُضعت أمام المسئولية وفي حالة الاختبار إلى جانب آدم يوم أمرا باجتناب الشجرة، حيث لم يكن يترتب على اجتنابها صلاح ولا فساد، وإنما كان المقصد هو الامتثال الواعي للذكر والأنثى، قال تعالى ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[4]، هذه الآيات اختزلت إشارات مهمة إلى الوعي المطلوب من خلال زاويتين، الأولى: من جهة إشارتها إلى قدرة المخاطب على التمييز بما وُهب من أدوات الاختيار العقلية القادرة على استيعاب مضمون الأمر والنهي الإلهيين. والثانية من جهة تأكيدها على الإرادة والحرية، باعتبارهما شرطين لازمين لتحمل نتائج الأفعال وعواقب الاختيار، كما أنها إلى جانب هذا وذاك أسفرت بإيحائها الواضح عن مقصودها بخطاب التكليف الذي يجمع الذكر والأنثى دون تمييز لآدم باعتباره أسبق في الخلق وأولى بالخطاب، فالدلالة واضحة في الخطاب أن المراد منه كل من الذكر والأنثى دون تمييز بين جنسيهما أو تنقيص من قدرة أحدهما على حسن الاختيار أو اتهامه بضعف الاستيعاب، قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾[5] وقال أيضا: ﴿قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[6]. هكذا انتهى الاختبار وصار واضحا أن الإنسان بنوعيه مطالب بتوظيف قدراته في تقدير الصلاح والفساد، وإعمال إمكاناته ومواهبه حتى يتوصّل إلى تمييز الخير عن الشر، فأصبح التكليف منذ ذلك الحين معلقا على المكلف ومنوطا بعقله الواعي الذي يُفترض فيه حسن الإعمال ورشد التدبير، ولذلك أصبح مستأمنا على أمانة ثقيلة ومسئولية كبيرة وتكليف جسيم جسامة الصفة التي يحملها المكلف كونه خليفة الله في الأرض، تصلح الحياة بصلاحه وتضطرب بسوء تدبيره، ويَقُوم العمران بسعيه، وتتحقق بإرادته سعادته في الدنيا قبل الآخرة.

هكذا يعالج القرآن الكريم قضايا الناس ويسدّد وِجهاتهم ويضع أجناسهم على مرتبة واحدة من الخطاب ويؤكد لمن احتاج إلى بيان أن الذكر والأنثى مقصودان بالخطاب على حد سواء، وأنهما مشمولان معا بواجب الانضباط لكلياته عبر مراعاة المقاصد الإجمالية للشريعة كالعمل الصالح الوارد في قوله تعالى ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾[7].

 إن حسن العمل وحسن التدبير المأمول في أمر الاستخلاف لا يميّز بين ذكر وأنثى لكونهما مدركين مُمكّنَين من أدوات التدبّر والتفكير البنائين، فمسئوليتهما على الأمانة ثابتة لأهليتهما ثبوتا قطعيا لا ظن فيه ولا احتمال، ووعد الله لهما بالسعادة بعد حسن تدبير محقق حتما بلا ريب ولا شك، وأما ما يشهد به واقعهما من تردي حضاري وهوان ذاتي فبفعل نكوصهما وإعراضهما معا.

الإنسان تخلف اختيارا عن فعل الإعمار، وأهمل العقل الواعي، وتخلى عن مسئولياته ذكرا وأنثى، إلا أن المرأة تخلت مرتين، المرة الأولى حين أخلفت المَوعد مع مضمون الخطاب الوجودي بالاستخلاف، والمرة الثانية حين رضِيَت بالهامش واعتبرت نفسها موجودا من المستوى الثاني، غير معنية بالبناء الإنساني والعمراني، غير معنية بسلم أو بحرب ولا بسياسة ولا بشأن اقتصادي أو مالي ولا بقضية فكرية أو ثقافية، غير معنية على الجملة بأمر الناس وسعادتهم، وغير معنية بالوعي قبل أن تكون معنية بما يقتضيه، حتى تناست بسبب هذا الإهمال تناست أن الأمانة التي تتحمل مسئوليتها مطلب شرعي لا يقل أهمية عن باقي المطالب المتضمنة في سلامة العقيدة، والمتضمنة فيما يسمى بالعبادات والمعاملات، فغابت بذلك عن وظيفتها غيابا كاملا ليس بفعلها فقط ولا بجسدها، وإنما غابت حين غاب عنها الوعي الذي انتقص بالتدريج حتى بلغ تخليها ما بلغ من إهمال في العصور المتأخرة وغدا نموذجا مشوّها لا مجال لمقارنته مع نماذج نساء الصدر الأول المتبصرات اللواتي عايشن زمن النزول ووعين عمق رسالتهن وخطورة دورهن في تحمل الأمانة.

…….

منهج القرآن في بث الوعي في الناس:

أ-تثويره للعقل والحواس:   

وإذا بحثنا في معوقات الوعي النسائي الإسلامي سنجد على رأس سنامه  لا محالة بُعدُ المرأة عن القرآن الكريم، فقد عُلم في زمن من الأزمنة دأبُ الرجال انتداب أنفسهم للحفظ والقراءة دون النساء على خلاف ما كان عليه الوضع في الصدر الأول للإسلام، ومضت قرون التخلي والجهل والمرأة لا تلوي على شيء من واجباتها الكونية ولا تسعى إلى استمداد الهدى من القرآن الكريم إلا ما كان بواسطة الرجل، وغاب عنها يوم أعرضت عن الأمر بالتعلّم أنها ستفقد إنسانيتها ووعيها حين يضيع منها أهم مفتاح للقراءة العالمة، وهاهي اليوم تضرب بكف الندامة على ما ضيعت عليها من هدى، وتندب زمنا ضيعت فيه نفسها وضيعت أمة كاملة يفترض فيها الشهادة على العالمين، فالمرأة بجهلها فوتت عليها فرص تحصيل الوعي المطلوب الذي وضعت قواعده في القرآن الكريم، ذلك أن نصوص التنزيل ليست سطورا جافة ولا قوانين قضائية صارمة بل هي فضاء للمعرفة ومدرسة لتشكيل العلم، وهي كلمات الله تعالى وهُداه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

المرأة مع الأسف تعاملت مع القرآن الكريم بشكل ناقص لا يرقى لكونه مدرسة لتقويم السلوك وشحذ الفكر له منهجه الدقيق في تنمية مدارك الإنسان كلما ارتبط به، ونسيت أنه خطاب ينشئ فضاء من القرب ويلغي الحواجز المعيقة للتواصل، ويحاور العقل ويستطلع السرائر ويجيب على أسئلة القارئ، هذا ما أغفلته المرأة في القرآن الكريم ولم تَعِ أنها حين تُعرِض عنه ستتخلى عن توجيهه ومقاصده الحقيقية في نفسها.

لقد أثار القرآن الكريم في المخاطبين حواسهم وعقولهم منذ نزل أول مرة، فخاطب العقل المفكر، وأشار إلى العين المبصرة واليد المبطشة، ووجّه كل هذه الحواس نحو العمل الواعي، ولم تكن هذه الإشارات عارضة في النصوص وإنما بُثت في عموم الخطاب بشكل ومنهج مضبوط غايته التنبيه على أهمية الإدراك في التكليف وبناء الشخصية اليقظة والمتبصرة، وإذا طالعنا سورة “إقرأ” وهي أول ما نزل وأول توجيه للمسلمين تبيّنا كيف نبّهت إلى كل هذه القوى المدركة وربطتها بالمحيط والمجال الذي تتم فيه عملية التفكير من أجل تحصيل القناعة الواعية القادرة على بلورة  فعل جاد ومسئول، فهي حين أشارت إلى فعل القراءة كانت تشدد على أهميتها وكأنها تقول إنها بداية الطريق إلى الوعي وأسلمها، مع العلم أنها لم تقصد بالأمر بالقراءة توجيه المخاطب إلى ما يتبادر إلى ذهن المأمور من فك رموز الحروف والكلمات وحسب، وإنما أرادت إلى جانب ذلك قراءة الكون وأسراره وطبائع المخلوقات وسلوكها، فكل ذلك قراءة مطلوبة في الآية عمادها البصر والإبصار بما هي أدوات للفهم والتفكير، وهذا ما تكشف عنه بقية الآيات المذكورة حيث توجّه القارئ نحو مخلوقات الله وتدعوه إلى التأمل في مراحل النشأة، قال تعالى في إشارته إلى أسرار التكوين البشري: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾[8].

هذه الآيات غنيّة كما نرى بالإشارات إلى تفعيل المدارك، ودلالاتها أكبر مما أشرنا إليه، وحسبنا ما عرضناه منها فهو يكفي للعبرة، ومن شأنه أن يجعل المرأة تتساءل حين تقرأ القرآن وحين تتلو وتتدبر سورة إقرأ: ماذا يفيدها الإخبار بأصل خلق الإنسان إن لم تكن مطالبة بفهم طبيعة التكوين الإنساني لمصلحة علمية أو معرفية تؤدي إلى صلاح أحوال الناس أو إلى التوجيه نحو معرفة الله تعالى؟ فذلك لعمري عين ما تقتضيه المعرفة المطلوبة وتمام ما تشدّد عليه النصوص المبثوثة في ثنايا التنزيل.

إن هذه الآيات من سورة العلق ليست إلا إشارات جامعة إلى ضرورة استثمار الوعي في عملية الإصلاح، وأما تفاصيلها فتوجد في عموم القرآن الكريم، والمرأة اليوم تحتاج إلى عقد صلح مع التنزيل لتبادله الحوار، وتفتح قلبها لأنوار هداياته. وتحتاج المرأة إلى قراءة جديدة لمضمون النصوص بعد أن تعي أنها معنية بخطابه، ولكن عليها قبل ذلك تفَهّم أن إدراك  خصائص هذا الخطاب لا يحصل إلا بالعلم بما هو مسلك المعرفة الطبيعي الذي دلّت عليه الآيات في سورة العلق كسائر نصوص التنزيل، وأرشدت إلى أداته الطبيعية في قوله تعالى: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾[9]. ولا يخفى ما لهذا الأمر الإلهي من دلالات مباشرة على ضرورة السعي إلي المعرفة عبر قنواتها الطبيعية بدل الاكتفاء بالوساطة.

خلاصة القول أن القرآن الكريم قادر على استنهاض القوى الخامدة في الإنسان بالتنبيه إلى الوسائل المفضية للوعي حينا وأحيانا كثيرة بالإنكار عليه حين يعجز عن تحصيل الوعي بأدواته الطبيعية.

ب-استنكاره تعطيل القوى المدركة:

لقد تضافرت الآيات في القرآن الكريم للتعبير عن ذلك المنهج الفريد في التربية على التفكير وتحصيل الوعي، وتنوّعت هذه الآيات في موضوعاتها وسياقاتها وأساليبها، إلا أنها اشتركت في حثها على استثمار قوى الذات المدركة، فهي حين تثير في الإنسان عقله وأحاسيسه وتكشف الحجب التي غلفت سمعه وبصره وقلبه ثم تدعوه إلى تفعيل عقله وفكره، لا تقصد من ذلك إلا البلاغ حتى لا يتذرع المكلف بغفلته وقلة حيلته، ولكنها مع ذلك لا تقتصر على أسلوب الحث وتثوير الحواس وإنما تسائل الإنسان عما أسفرت عنه مساعيه لتحصيل الوعي وتستنكر عليه إعراضه إن هو أعرض عن الحقيقة أو لم يتوصل إليها، وهذا المنهج يلمس في القرآن الكريم، وخصوصا في المكي منه، حيث كان الوحي بصدد تهييئ العقول لتلقي الهدى وفي طور ترسيخ الاعتقاد في القلوب المؤمنة عبر عقولها، وهذا المنهج لا تخلو منه النصوص على الإجمال ولكنه يتردد بقوة في الآيات، وهو ملموس في الآيات التي تحمل ملامح التوجيه المباشر وأسلوب الإقناع ومعاني التنوير والتي تخاطب العقل الواعي من قبيل قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[10] ﴿وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ﴾[11]، ﴿وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ﴾[12]، هذه الآيات تستنكر تغييب المكلف لعقله موضع الفهم والعلم والفقه، ولكنها اقترنت بأدوات التوبيخ والتقريع والتحذير، وتلك أقصى درجات التنبيه والعظة، ومع ذلك فنصوص القرآن الكريم، وإلى جانب عبارات الاستنكار هذه، تنشئ مساحات واسعة للمساءلة غرضها التنبيه إلى خطورة الغفلة الناتجة عن إهمال أدوات الإدراك باعتبارها أصل المشكل وجوهره، فالعقل محل الفهم والتفكير وموضع التحسين والتقبيح، يجب أن يؤدي وظيفته في طلب الهدى والرشاد إلا أن خطاب التنزيل يعتبر العقل قاصر على الإدراك دون سمع وبصر ولمس…إلخ، ولذلك نجده  يوجه الاستنكار إلى الإنسان من حيث إهماله الحواس أيضا وليس العقل فقط، باعتبار هذه الأدوات مزودا للعقل، وفي ذلك تدخل الآيات التي تختم بعبارات ﴿ أَفَلا يُبْصِرُونَ ﴾[13] ﴿ أَفَلا تَسْمَعُونَ﴾[14] ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾[15] ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ﴾[16] ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾[17] …إلخ.

 وبحكم عدم الحاجة إلى التخصيص في الأمر بتحصيل الوعي لعدم وجود الداعي إلى إقصاء أحد الجنسين نجد كيف أن دعوة القرآن الإنسان لإعمال الفكر واكتساب صفة الوعي – بعدما سخرت له وسائل ذلك- شملت العالمين ذكرانا وإناثا، ولم تستثن إلا من سقط عنه التكليف، ومن هنا كان تسلح الجنسين بالوعي والسعي إلى اكتسابه ضرورة شرعية دلّ الاستقراء القرآني على وجوبه وإلزاميته.

ج-الحوار في القرآن دعامة لتشكيل الوعي:

يعتبر الحوار وكذا المجادلة والحِجاج من أهم مناهج القرآن الفريدة في تفعيل خاصية الوعي لدى المخاطبين، حيث تقوم قواعده على قوة الأدلة والحجج التي تحتاج إلى اشتغال الأذهان حتى يتحقق المرتاب والمتردد من صدق الدعوى، ويقوم التكليف على وعي سليم وقناعة راسخة، وقد قدّم القرآن الكريم نماذج حوارية تقوم على الاستدلال وتفعيل الطاقة الذهنية لنقل المرتاب من الشك إلى اليقين برفع درجة الوعي والإدراك لديه، ومثال ذلك ما جاء في خبر الرجل الذي شك في قدرة الخالق على إحياء قرية خامدة ﴿ قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾[18]، هذا التساؤل انطوى في تعبير القرآن على شك مريب في السائل كان لا بد قبل الرد عليه من تثوير خصائص الإدراك في قلب المرتاب حتى يدفع أسباب الشك في نفسه من تلقاء ذاته، وهذا ما سعت إليه الآيات اللاحقة حين قذفت أجوبة استدلالية مقنعة انطلقت من ذات السائل المحسوسة لتحقق في وعيه الاقتناع المطلوب ﴿ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا﴾[19]، هكذا حصّل الرجل المرتاب وعيا سليما بقدرة الخالق المطلقة مما تبيّن له من الدلائل الحسية والعقلية، ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.

إن هذا الأسلوب من نماذج المنهج القرآني في بث الوعي في الناس كثير الورود في نصوص القرآن الكريم، نجد منه حوار الأنبياء مع أقوامهم و حوار أصحاب الكهف وحوار إبراهيم مع الملك الذي حاجه في ربه، وزوجة زكرياء التي استشكلت حملها وهي العجوز العقيم، وكلها شواهد نقلت وقائع حوارية كانت تقود إلى تحقيق الوعي واليقين.

 وعموما فإن خطاب العقول وأساليبه في القرآن عديدة لا تكاد تحصى، تكشف في عمومها عن منهج تربوي سديد انعكس على وعي الصحابة الكرام ونفوسهم، فأصبحوا يستبقون الأحكام تصويبا لأعرافهم وتقويما لسلوكاتهم لما وعَوه من نضج التشريع وسموّه، فحرّمت الخمر حين عبروا عن وعيهم بخطورتها ومضارها، وحين مالت نفوسهم النقية إلى استعجال تحريمها، ونزل تحريم الظهار حين جادلت خولة بنت ثعلبة النبي في زوجها واشتكت إلى الله عادة بالية لا توافق سمو التشريع فكان الحكم.

وليس يخفى كيف لازم هذا الوعي أصحاب النبي رجالا ونساء لدرجة أصبحوا ينطقون معها بمقتضاه ويتحركون بما يمليه عليهم إدراكهم للأشياء بعدما كانوا يرفلون في التفاهة والجهل، فمن روائع ما نقل التاريخ من شواهد في هذا الباب قصة ربعي بن عامر الذي عبّر عن هذا الوعي في جملة واحدة حين أجاب رستم: “نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”[20] وكان في قولته جامعا لمقصود التشريع، دالا على تفتق الوعي عند عموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واختماره في عقولهم ونفوسهم ذكرانا وإناثا، ولا عجب أن كان القرآن الكريم مشكاة هذا النور الذي عمّ الناس، وكانت المرأة أهلا لتلقيه وتفهمه.

الوعي النسائي دعامة بناء المجتمع:

الوعي النسائي إذن مطلب شرعي يلزم من تحققه أداء الأمانة وتحقيق الاستخلاف، ويلزم من تخلفه اختلال بناء العمران، فالمرأة –كما تقرر- معنية بالخطاب الوجودي الذي لا يتقادم بفعل الزمن وهي مطالبة بتحمل مسؤوليتها في هذا الوجود كاملة غير منقوصة، كما أنها ملزمة بفهم مرتكزات الدعوة المعاصرة إلى تفعيل “الوعي النسائي” وفق القيم التي تؤمن بها وبما ينسجم مع متطلبات المرحلة التي تجتازها الأمة اليوم، ويتوجب عليها فهم الأسباب والعوامل التي ساهمت في إبعادها عن حقيقة كونها مستخلفة، ونتائج ذلك عليها وعلى المجتمع كله.

لقد دعا الإسلام المرأة إلى المساهمة والفعالية في إدارة الحياة وتدبير شؤون المجتمع من خلال رزمة من التكاليف الاجتماعية العامة التي عُرضت في القرآن الكريم ووجهت إلى  الجماعة المؤمنة ذكورها وإناثها، وبمقتضى هذه التكاليف أصبحت المرأة مسئولة عن بناء الأسرة والدولة والأمة والحضارة، وأضحت طرفا أصيلا في المشروع النهضوي المنشود. يقول تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾[21].

إن مشاركة المرأة في التكاليف العامة تؤتي أكلها بقدر ما تحصل لديها من الوعي والنضج، وبما استجمعته من عُدة للإصلاح، وقد مثلت بيعة النساء للنبي في عصر الرسالة خير نموذج على كمال الوعي وقمة النضج، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[22]، فالمرأة بعدما تحررت من قيود التبعية وانعتقت من مهانة التشيء انتصبت لأداء ما هيئت له سلفا، وشاركت في البيعة مشاركة حرة واعية، تدل عليها أداة الشرط “إذا” في قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ﴾، فسجلت بذلك التزاما سياسيا ظهرت شروطه في عقد البيعة ولم تفوّت التعبير عن موافقتها لأحد بل عبّرت عن قناعاتها بشخصها ولم ينُب عنها في ذلك أحد، فكانت بيعتها مستقلة تماما عن بيعة الرجل، ولم تمنعها تبعات العقدة وثقل محتواها من الموافقة على بنودها.

الصحابيات شاركن أيضا في بيعات مختلفة على سبيل الالتزام بمقتضى التشريع، فبايعن على الإيمان قبل الهجرة، وبايعن على النصرة والجهاد في العقبة الثانية، وبايعن على الإيمان بعد الهجرة، وبايعن بيعة الرضوان على الجهاد. ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن البيعة الواردة في الآيات التي ذكرنا هي بيعة نساء مكة على الإيمان بعد الفتح، وفيها كان الحوار المشهور لهند بنت عتبة مع رسول الله تراجعه فيه، وهو حوار ينم عن ” كمال إحساسها بالمسئولية وبأنها بصدد بيعة وميثاق، كما أنه يقدّم دليلا ملموسا على حضور شخصيتها وكمال عقلها وعلى قوتها في الحق”.[23]

إن المرأة اليوم في وعيها الجديد تجد نفسها – حين تتصالح مع ذاتها – امتدادا للمؤمنات اللواتي بايعن النبي على التوحيد والأمانة والعفة والحفاظ على الأولاد محافظة مادية ومعنوية، وعلى صلاح الأيدي والأرجل والابتعاد عن كل بهتان سواء كان بالقول باللسان أو بالفعل والجوارح، فلا مناص حين تدعو إلى إصلاح وضعها اليوم أن تحقق الوعي الكافي في نفسها أولا قبل أن تشيعه في محيطها النسائي، إذ بمقدار ما يزداد وعي المرأة وينتشر تزداد مشاركتها وفعاليتها في الحياة العامة ويظهر لمبادراتها جميل الأثر في المجتمع، وبقدر تخليها تسهم في تخلف المجتمع ونكوصه عن ركب الحضارة.

لقد شكلت محدودية الوعي النسائي ومحدودية تجربة المرأة في الحياة في عصور الانحطاط الذريعة التي بُنيت عليها بعض الممارسات المنتقصة من حق المرأة، كما كانت هذه المحدودية سببا مباشرا وإن لم يكن وحيدا في تكريس التخلف الحضاري، فأخْلَت المجال في جميع الميادين للرجال، وتضاءل دورها في الحياة –نتيجة ذلك- حتى بقيت حبيسة جدران بيتها، ورضيت لنفسها بالبطالة عن العمل وعن الفكر، وأصبحت بالتبع مهددة في كرامتها وإنسانيتها، وفرضت على نفسها العزلة والإقصاء حتى صارت هموم الناس الكبرى في مصنفات الفقهاء لا تخرج عن الانشغالات اليومية للرجال، فهم أهل الإمامة والقضاء والتعليم والتجارة والسياسة…إلخ، وغدت المرأة في هذه المجتمعات مخلوقا ثانويا، لا حول له ولا قوة.

وما بزغ فجر الحرية على العالم من جديد حتى صرنا أمام دعوة لرفع الاضطهاد عن المرأة لا لنشر الوعي فيها، وأصبح المجال مُشرعا لدعوات ملغومة تطلب تحرير النساء من كل القيود، وتدعوها للتمرد عن الأعراف والهوية، فأصبحت بين خيارين أولهما خيار التهتك والتعري والابتذال، وثانيهما خيار الجهل والتقوقع والدونية والهوان.

المرأة المسلمة اليوم لم تخرج بعدُ من هول الصدمة ولم تستفق من أثر المفاجأة، ولم تتبيّن بعدُ موقعها الصحيح ومقامها السليم وإن سقطت وهي تحاول النهوض ما دل ذلك على اختيارها الصحيح الواعي ولا كانت سقطتها أبدية، ولو أن المرأة كانت متسلحة بالوعي حين أشرقت شمس التغيير لأسهمت في حل مشاكلها ومشاكل الأمة بأسرها ولم تنسلخ عن قيمها وكرامتها، ولما انخدعت ببريق دعوة التحرير المزعومة التي لم تتبيّن خباياها بعدُ ولم تخضعها لميزان مرجعيتها وقواعد الصلاح والفساد التي تستمدهما من الأصول التي صنعت عزتها أول مرة.

أسباب غياب الوعي النسائي ونتائجه: 

  إن السبب المباشر في غياب وعي المرأة يرجع أساسا – كما بيّنا- إلى إبطال خاصية القراءة، ونعني بها أساسا عدم قراءة القرآن قراءة تنتج فقها بالمعنى العام للفقه، وقراءة تصنع الفاعلية في المجتمع من أثر التفاعل مع نصوص الكتاب الحكيم. ثم إن غياب وعي المرأة قبل هذه القراءة له ارتباط وثيق بتفشي الأمية بين صفوف النساء، ولا نعني بالأمية هنا الجهل بأبجديات القراءة والكتابة وإنما نعني بها إلى جانب ذلك –وكما سبق البيان-العزوف الكلي عن الشأن الثقافي وعن فهم واستيعاب وظيفتها في الوجود وكيفية القيام بها خير قيام، ونسجّل هنا أن غياب الوعي لدى المرأة يؤدي كذلك إلى تنصلها عن أداء وظيفتها الكونية فتصبح غارقة في التفاهة والسلبية.

نحن اليوم في حاجة إلى صحوة نسائية تكون المرأة فيها على قدر كاف من الوعي يؤهلها للمشاركة بفعالية وإيجابية في الإعمار والبناء، فأن تتسلح المرأة بالوعي معناه أن تسلّح الأجيال الصاعدة به، ومعناه أن نضمن ترتيبا مشرفا في مصاف الدول المتقدمة والمتحضرة، وأن نقود ركب الحضارة صوب الوجهة الصحيحة. وفي سبيل تحقق ذلك نحتاج إلى إعداد المرأة الرسالية في مجال التربية، وتمكينها من الخبرات اللازمة للقيام بهذا الدور بنجاعة. المرأة حين توازن بين مهامها السياسية والتنموية والتربوية ستكون لا محالة في القمة وستكون القاطرة التي تجر المجتمع نحو الرقي والازدهار، فمهامها مهام جليلة تحاكي مهنة الرسل والأنبياء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض وحتى النملة في جحرها وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلم الناس الخير”[24]. فمهام المرأة السامية لا يجب أن تقصي من الاعتبار وظيفتها في تنشئة الأجيال، ذلك أن مهمتها التربوية إن هي قامت بها خير قيام سيكون لها عظيم الأثر في المدى البعيد، وسنضمن تأهيلا جيدا لجيل المستقبل ينتجه البيت برعاية المرأة ويساهم في البناء في المجتمع برعايتها وعلى مرأى من عيونها.

ولكي تستطيع المرأة تكوين وعي سليم يؤهلها لاختيار وجهتها في الحياة عليها أن تظل في تواصل مستمر مع المجتمع، وأن تعنى بشؤونه، وتدرك ما يدور حولها من أحداث وقضايا، وأن لا تكتفي بدور المتفرج، بل تسهم بقدر طاقاتها وإمكاناتها بدفع عجلة المجتمع إلى الأمام، على المرأة أن تعي جيدا حقيقة دورها فيه، فدورها سيف ذو حدين، هي قادرة من جهة على تحقيق الصلاح وزرع بذور الخير بنفس قدرتها على نشر الفساد وزرع بذور الفتنة، وذلك راجع إلى مدى استيعابها والتزامها بتعاليم الإسلام وقيمه المثلى، ومدى استخدامها الصحيح لما حباها الله به من قدرة على التأثير، فتكون آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر وفق ما أمر الله، كما أنها معرضة من جهة أخرى لأن تصبح منكرا يسعى بين الناس وينشر فيهم الفساد وفق ما زيّن لها شياطين الإنس والجن، فتحيد عن النهج القويم.


[1] البقرة 30.

[2] البقرة 30.

[3] البقرة 31.

[4] البقرة 35.

[5] الأعراف 22

[6] الأعراف 23.

[7] النحل 97

[8] العلق2.

[9] العلق 4.

[10] البقرة 44.

[11] الأعراف 38.

[12] الإسراء 44.

[13] السجدة 27.

[14] القصص 71.

[15] المؤمنون 105.

[16] الأحقاف 26.

[17] الملك 10.

[18] البقرة 259.

[19] البقرة 259.

[20] انظر البداية والنهاية، ابن كثير، 9/623. دار عالم الكتب 2003.بدون طبعة.

[21] التوبة 71.

[22] الممتحنة 12.

[23] انظر دور المرأة السياسي ص 173.

[24]  سنن الترمذي – كِتَاب الْعِلْمِ – حديث رقم 2685.

The researchers also tried to test the idea that differences among schools were to blame by analyzing data for students within the same schools, but they got write my essay for me com the same pattern of results
المقال السابق

لا توجد مقالات

أرسل تعليق